قصة سيدنا شعيب بالفصحى ..
مَدْيَن..اسمٌ لقريةٍ عربيةٍ بأرضِ معان بالأردن،تقع على أطراف الشام جهة الحجاز[تماماً بالقرب من بحيرة قوم لوط].
سُمِّيت بـ مَدْيَن نسبة لقبيلةٍ سكنتها، وهم ذرية مَدْيَن بن إبراهيم عليه السلام ..
كانت مَدْيَن ملأى بما لايُعدُ ولا يُحصى من خيرات الله ،زُروعٍ وأشجارٍ وثمارٍ وأنهارٍ والكثير الكثير من هِبات الله ونعمه وأفضاله بما لم يتميز به غير تلك الأرض..أرض مدين..
أطغت تلك السرّاء وهذا الترف وذاك النعيم أهل مديَن وجحدوا فضل الله عليهم وكانوا كفرة يعبدون غير الله !
فكانت بأهل مدين صفة مُمَيّزة لهم كما ميّزت تلك الجِنان أرض مدين..كانوا يغُشّون في المِكيال حد البجاحة !
حتى أن الله-جل شأنه- جعل تحذيراً في القرآن كما في قوله .. (وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ) .. [آية 84 : سورة هود]
والمِكْيَالُ بالآيه اسم آلة يُقاس بها..والمكيال مشتقه من الفعل كالَ : وهو ما يُكال به وهو وعاء ذو سعة معيَّنة من حديد أو خشب ونَحْوهما يُستعمل لكيل السَّوائل والموادّ الجافّة .
والكيل عموماً هو مقارنة شيء بشيء آخر،فلو كانت المقارنه بين شيئين بمقارنة (وزنيهما) فالمُستخدم عندها للكيل هو الميزان..وأما إن كانت المقارنه بين شيئين بمقارنة (كميتيهما) فالمُستَخْدم عندها للكيل هو المِكيال.
كـ أُنْمُوذَج على غش أهل مدين في المكيال.. أنه من أراد شراءاً من تاجرٍ من أهل مدين كان يتلاعب في المِكيال فبدلاً أن يحسابه على كيلوجرام -وهو المُتفق عليه- كان يحاسبه على أقل من هذا لحدٍ مُلفِت !
أي أنهم لا يوفّون الناس حقوقهم وينقصون من حقهم ويظلمونهم في حقهم..
كان لابد من إعادة العباد لعبادة رب العباد وإعادة الأمور إلى نصابها وإحلال العدل والحق وتبليغ رسالة الله ، فكان سيدنا شعيباُ –عليه السلام- هو من حمل رسالة الله إليهم ..وكان من أهل مدين،غير أنه لم يكن كافراً مثلهم بنعمة الله وكان به من العقل ما يُفرِّق به بين حجارة تُعبد من دون الله وبين الله الذي لا إله إلا هو خالقهم وخالق كل شيء ومايعبدون ..نافعهم وضارهم ..مُحييهم ومُميتهم..والقادر عليهم وعلى كل شيء ذو الجلال والإكرام !
و كما تميزت أرض مدين بروعة جنانها وطيب عيشها ..وكما تميز أهل مدين بكفرهم وفي المكيال غشّهم ..فكان لنبي الله ما امتاز به فكان بليغاً قوله..قوية حُجّته..مُقنِعاً لكِل ذي عقل بما يقبله عقله....حتى انّه لُقِّبَ بـ (خطيب الأنبياء)
بدأ شعيب-عليه السلام- تبليغ الرساله، واختلف العلماء في أي قوم بُعِث –عليه السلام- !
فمنهم من قال بُعِث لأهل مَدْيَن فقط،ومنهم من قال بُعِث لأهلي مَدْيَن و الباديه من حولها أيضاً..
أما عن سبب الاختلاف في الأقوال هو أن الله تعالى يقول في القرآن الكريم (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ) .. [سورة الشعراء]
- والأيكه قِيلَ أنَها شجره عظيمه مليئه بالأغصان والألياف المُلتَفّه حولها،وقيل هي مجموعه من الأشجار،والأصح أنّها بساتين مُتَّصِفَةٌ أغصانها بالتفافها..وكما بالآيه الكريمه فإن أصحاب الأيكه كانوا يعبدون الأيكه..
ولكن ماذا عن أهل مدين،هل كانوا يعبدون الأيكه أم الأصنام؟وإنا كانو يعبدون الأصنام ،فمن يعبد الأيكه ؟
- النقطه الثانيه ..أنّه عندما ذكر الله تعالى أهل مَدْيَن قال أنّ شُعَيباً –عليه السلام- أخاهم،بمعنى أنّ بينهم صلة قرابة ونسب وأنّه من نفس القبيله (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ) ..[ آية 84 : سورة هود]
لكن لمّا ذُكِرَ أصحاب الأيكه لم يستخدم نفس الربط (أخاهم) ..
ومن هنا كان اختلاف العلماء..:
• الطبري والسعدي وابن كثير فسروا أن أصحاب الأيكه هم نفسهم أهل مدين..وأن جزء منهم كان يعبد الأيكه والجزء الثاني يعبد الأصنام.
وفصّل ابن كثير قوله بأن الله لم يربط سيدنا شعيب بعبدة الأيكه لأنهم كانوا منسوبين لعباده الأيكه،فلم يكن مايربط بينهم وبين شعيباً عليه السلام..
بينما في آية أهل مدين كانوا منسوبين لـ قبيلة مدين..مدين التي منها شعيباً عليه السلام..ونسبته للقبيله ليس فيها اتهام أو إساءة،لهذا ربط الله تعالى بينهم ووضّح علاقة النسب التي جمعتهم تحت لفظ "أخاهم"..
•أما تفسير القرطبي وابن عاشور كان :أن الأيكه قريه بجوار مدين ،وفي هذه الحاله يكون الاختلاف بينهم في العباده أيضاً ،لأن أهل مدين عبدوا الأصنام وأصحاب الأيكة عبدوا الأيكة..فَبُعِثَ سيدنا شعيب-عليه السلام- بالرساله للقومين –أهل مدين وأصحاب الأيكة- ..
وفصّل ابن عاشور قوله بأن هذا من المنطق، لأن الرُسُل عندما يُبْعَثون يكونون من أهل المدائن لكن رسالتهم تشمل القرى المُحيطه بهم كذلك ..
وحكى ابن عاشور أن مَدْيَن بن إبراهيم لما سكن الأرض-التي سُمِّيت بعد ذلك باسمه- وجد قوماً يعبدون الأيكة،فـ شرع ببناء مَدْيَن هو وأولاده وعمّروها وتركوا الباديه لأهلها [هم أصحاب الأيكة] ..فأصبح أهل مَدْيَن يسكنون بمدينتهم وأصحاب الأيكة بجوارهم في القريه..
واستشهد ابن عاشور على كلامه بالآيه (وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ( 78 ) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ ) .. [سورة الحجر]
فالضمير هنا في كلمة (وإنهما ) ضمير مُثنى يعود على أصحاب الأيكة وأهل مدين..وعن هذا الضمير فسنجد ابن كثير والقرطبي والطبري تبنّوا فكرة أن الضمير (وإنهما) يعود على أصحاب الأيكه وقوم لوط ..لأن سياق الحديث في الآيات السابقه للآيه الأخيره كان عن قوم لوط..
• الواقع أن التفسيرين منطقيين جداً،لكنها تبقى مجرد اجتهادات للعلماء والله أعلى.. وأعلم بالأصح.
سيدنا شعيب -عليه السلام- بدأ يدعو لعبادة الله الواحد ..كما بدأ بتوعيتهم بخطورة غشّهم الذميم..فكان من تمام الرساله أن الدين ليس فقط قضية ألوهيه وتوحيد فقط –ولو كانتا على الألوهية والتوحيد تقوم الحياه وتزدهر - فالدين أسلوب للحياة والمعاملات ومصدر للشرائع والحدود و..و.. أي أنّه يشمل ويحيط بجوانب وتفاصيل حياة البشر بل وغير البشر من الحيوانات والجمادات كذلك ويحافظ لهم على حقوقهم واتزان الحياة..
قصة سيدنا شعيب-عليه السلام- تعرض لنا هذا المعنى بوضوح ،فبعد أن دعا قومه –عليه السلام- للتوحيد ابتدأ فوراً بدعوتهم لإقامة العدل بينهم والأمانه ونهى عن الغش في الميزان ( يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُه وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ) .. [آية 84 : سورة هود ]
كان يخبرهم أن المجتمع قائم على تبادل السلع ،والغش في المكيال والميزان سيؤدي لفساد المجتمع كله ..والغش ليس بالهيِّن..فهو يؤثر على العدالة الاجتماعية بأسْرِها !
فظل –عليه السلام- يحذّرهم بأنّهم إن ظلّوا على غشّهم وإصرارهم على خطأهم سينقلب الأمر عليهم ويختل ميزان العدل في عقولهم وقلوبهم ويؤذيهم ويهلكهم..فعدَّدَ عليهم نعم الله تعالى..ليثبت لهم أن ماهم فيه من نعمة وخير لا يحتاج لغشّهم هذا..
لكن ماظلّوا عليه هم حقاً ..غشّهم في الموازين..ظنّوا أن هذا –غشّهم- مهارة ودهاء..ظنوا الغش براعة في البيع والشراء ..
لكنّه –عليه السلام- وضّح لهم أن ما يفعلونه ليس بالمروءه أو بأخلاق الرجال..وضّح لهم ان هذه سرقه وخيانة وغش
كان يكرر لهم كثيراً النصيحة .ويُكثِر دعوتهم في جميع الطرق..فتارة تجده ينصحهم بالنهي عن السلبيه الميزان ( وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ..) .. [من الآية 84 : سورة هود]
وتارة أُخرى تراه يتجه للحث على الإيجابيه (وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) .. [ آية 85 : سورة هود]
نلاحظ بالآيه الكريمه التعبير القرآني البليغ في قوله تعالى (وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ) ..فلفظ أشياءهم شامل على كل شيء ..سواء مادي أو معنوي..فالنهي هنا لا يقتصر على البيع والشراء فحسب..بل إنه يتّسِع حتى يشمل جميع جوانب التعامل..أي أنّه -عليه السلام- كان يناههم عن الظلم بكل أشكاله ومسمّياته..يأمرهم بسم الله أن يقيموا العدل في معاملاتهم اليوميه والإنسانيه وجتى التصرفات الشخصيه..
يعلم الله أن الظلم عامة يسبب للإنسان الانهزام ويُشْعِرهُ بالألم واليأس واللامبالاة..يحوّل الحياه لغابة..غابة تنهار بها القيم والعلاقات والأخلاق..
لهذا تجد ختم الآيه بـ (وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ..فساد الأرض التي نحيا عليها يبدأ من ظلمك ..ظلمك لغيرك ..وحتى سكوتك عن ظلم الآخرين أياً كان نوعه ..
تناسق الاية وتدّرجها وإرتباط معانيها يُوضح لنا قمة بلاغة القرآن وقوة حجة سيدنا شعيب-عليه السلام-
ففي الآيه التي تليها تجدها(بَقِيَّتُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ) .. [ آية 86 : سورة هود]
"بقيت الله" اُخْتُلِفَ في تفسيرها..
فمنهم من فسرها أن المتبقي لكم بعد معاملتكم للناس بالعدل والأمانه وتوفوا الميزان ،سيجعل الله به البركه وقطعاً هو أفضل لكم لأنه حلال !
ومنهم من فسرها أن طاعة اله هي التي تجلب الخير ..وقال آخر أن ماعند الله لكم من رزق ونصيب كتبه لكم ..
ختم –عليه السلام- حواره مع القوم بإبعاد نفسه تماماً عن الواجهة (وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ..)..
أسلوبه المُتَمَيِّز في النصح كان تدريجياً توضيحياً مختومٌ بتذكيرهم أنه مجرد رسول من الله إليهم ..كلية الأمر أن عليه تبليغ الرساله التي أمر الله بها..ومرجعهم إلى الله نهاية الأمر ..فيُحاسبهم..يكافئهم إن اتّبعوا..ويعذّبهم إن أعرضوا..
قد بين لهم جديّة الموضوع ..وكذلك جديّة العاقبه..فلايبقى لهم بعد البلاغ إلا هم وانفسهم لمراجعتها..وليَتَيَقّنوا أنه لايُريد لهم إلا مافيه لهم من الصلاح ...
ورغم منطقية مايتكلم به سيدنا شعيب-عليه السلام- ..إلّا أنّهم استمروا في العناد والإعراض ..
أخذوا يردون عليه بـ منطق مختلف تماماً .. قالوا له : أصلاتك تأمرك أن نبتعد عن عبادة مانعبد من الآلهة التي عبدناها وآباءنا وأجدادنا ؟؟! سؤال به خليط من السخرية بل والاندهاش ..!
أيُّ جرأة منك يا شعيب هذه ؟! أو أي جرأة من صلاته تلك؟ [يُلحظ أنّهم اختصروا الدين كلّه في الصلاة..
أهمية الصلاة تكمن في انّها أكثر شيء لايتغير بتغير الأديان السماويه وبتغير الأزمان..
الصلاة عموماً يُقصد بها الصِله بين العبد وربّه..أما صفتها في التي تختلف من دين لآخر..لكنها في كل الشرائع أهم الأركان..فهي الصلة..العمود..هي أساس الدين !
وفي إسلامنا خمسة أركان..إن جئنا لركن "الشهادة..شهادة أنّ لا إله إلّا الله وأن محمداً رسول الله" نجد أن الإنسان إن أسلم فتجب عليه مرة واحدة وقلبه مطمئن بها..وويالهناء من ختم حياته بالشهادة كذلك ..وإن جئنا لركن "الزكاة..قد نجد أن بعضهم غير قادر على توفير مبلغ الزكاة المفروض فلاتجب عليه زكاة حينها..ونأتي لركن "الصيام..صوم رمضان..فقد يمرض المسلم مرضاً لايقدر معه على الصيام فلا يجب الصيام حين مرضه..وإن جئنا لـ "حج بيت الله الحرام..فهو للمسلم المُستطيع فقط ..
ماعدا الصلاة..هي الركن الوحيد التي لا تسقط عن المسلم أياً ماكانت ظروفه..في سِلْمٍ أو حربٍ ..أو صحة أو مَرضٍ..أو ماجرى علي الإنسان من قدر الله..حتى أنه يُرَخّص إن أصاب الشلل الجسد كله-عافاكم الله- الصلاة بمجرد حركة هدب –رموش- العين وحتى إن عجزت عن ذلك فتكون الصلاة بالقلب !
فأيّاً ما كانت الأسباب ..لامُبرر البتة لترك الصِلة بينك وبين ربك...لامبرر لترك إعلان خشوعك وخضوعك وعبوديتك لله تعالى خمس مرات يومياً ..ومن هنا جاءت الكثير من الأحاديث الشريفة عن أهمية الصلاه مثل :
"العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر "
" إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة"
"أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإذا صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر"
والمقصود بالكفر في الأحاديث هو حكم من يترك الصلاة من باب الجحود والإنكار لوجوبها..أما لو كان المسلم معترفاً بـ وجوب الصلاة لكن لايصلي تكاسلاً وتلاهياً عنها،فالراجح من قول أهل العلم أنه ليس بكافر.لكن يجب تنبيهه وتذكيره ووعظه ليستفيق من عصيانه، لأن صلاة يتركها يصليها على الصِراط المستقيم !
وحينها ستكون الصلاة كما فُرِضت..بسكينة واطمئنان ..رغماً عن تارك الصلاة لَيُصَليّن على شعرة حادة من نار فوق نار،وبكل أركان الصلاة بلا عجلة أو سرعة ..
صلاتنا في الدنيا تثبيت لإخلاصنا وإختبار لنواينا وطاعة لخالقنا رغم المكاره..
صلاتنا في الآخره ستكون عقاباً لتقصيرنا واستخفافنا !
لكن كما كان ويكون وكما سيكون..كل أمرٍ له حِكمة ..وفي أمر الصلاة على التحديد ليست بالحكمة الواحدة،لكن الكثير من الحِكم ..وأبسط تلك الحكم وأعظمها في حينٍ واحد،لو انتبهنا لوجدنا أن الصلاة هي الركن الوحيد التي تجتمع فيها غالباً بقية الأركان..
فأنت بصلاتك تنطق الشهادتين كما بالتشهد..
بصلاتك تُضحّي بالمال..المال الذي من عملك الخاص..العمل الذي يجب أن تقضي به من وقتك..بمعنى أن العمل أحد أساساته الوقت..أمّا في الصلاة فأنت تُضحّي بالوقت نفسه..فكانت دائرة الوقت أوسع من دائرة الزكاة كما قال شيخنا الشعراوي –عليه رحمة الله- ..
في الصيام تحبس نفسك عن شهوتين هما الفَرْج والبطن..لكن في الصلاة أنت تحبس نفسك عن المادة والشهوات جميعها حتى المسموح بها في الصيام..
وفي الحج تتجه لبيت الله الحرام..وفي كل صلاة فعلياً أنت تتجه صوب بيت الله الحرام]
استكمل أهل مدين كلامهم الذميم واستهانتهم ..رفضوا الهدايه..بل قالوا أن صلاتك ياشعيب تتدخل في إرادتنا وفي طريقتنا لإدارة المال !!!
ثم ماعلاقة الصلاة والإيمان اللذان تدعو لهما بـ المعاملات المادّية !
سألوه هذا السؤال ظناً منهم أنّهم تمكنوا من تعجيزه عن الإجابه..فتحوا له قضية إنفصال الدين عن الحياة وابتعاده عن مجالات الحياة كلها ...
لم يكن بمفهومهم أن الحياة لا تستقيم إلّا بتطبيق الدين على كل جانب في الحياة..أنكروا حقيقة أن أخلاق الدين وأوامره هما الأساس وعليهما وبهما تزدهر الحياة ..
وكما عادتهم كلّما دعاهم شعيب-عليه السلام- استهزءوا به ونالوا منه سخريةً..فقد اختتموا كلامهم بما اعتادوا عليه من السخريه..فقالوا: ءأنت الذي تظن نفسك حليماً ورشيداً وقد كنا نظن فيك التعقل.. ذو الحجة والمنطق والفِكر السديد!
لو كانت بك كل تلك الصفات لَمَا قلت لنا ماقلته ولا دعوتنا إلى ماتدعو !( قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)
كعادة الانبياء والمرسلين من السخرية الصريحة والتكذيب والكفر والعناد فقد ظل -عليه السلام- مُتَيَقِّنَاً أنّه على الحق..كان رد فعله هادئاً ولطيفاً ..وبكل لينٍ و ودٍ لم يهتم بإعراضهم والسخريه ولم يُعَلّق حتّى على اتهاماتهم له في شخصه..تجاوز الكلام كله لأنه بدعوته وبرسالته أكبر من الالتفات لأكاذيب تُلقى واتهامات تُلَفّق..
رد فقط بأنه مبعوثٌ.. وفقط مبعوث من الله تعالى إليهم وليس له من المصالح شيئاً في هذا ..هو ماهو إلّا نبي مبعوث لهم لهدايتهم ولا يريد إلّا الإصلاح والصلاح لهم ..لايريد إلا مافيه مصالحهم هم..بيّن لهم أن الله تعالى قد رزقه علم ومعرفة ونبوة،وبارك له في ماله لأنه حلال..فهو لا ينهاهم عن أمرٍ لكي يفعله هو أو يحقق منه استفادة شخصية له..لا يقول لهم أقيموا العدل و اتصفوا بالأمانة ليخلوا له السوق وحده ويغش هو ! (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)
قد أجاب باختصارٍ وبلاغةٍ (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ) ..هدفه في الأمر هو الإصلاح ..وتلك دعوة الأنبياء حقيقة -ونحن من وراءهم-..وهذا هو مضمونها الحقيقي..مبعوثون للإصلاح..مصلحون للعقول والقلوب..للحياة العامة والحياة الخاصة..
وكما الأنبياء والمرسلين والمُخلصين ..أياً ما كانت درجة صلاحهم وعقلهم وجمال النوايا والأفعال..إلا أنهم لاينسبون أياً مافيهم لأنفسهم..فكان ختامه عليه السلام كلاماً هو نسبة الفضل كلـــــــــه لله..أي أنّه إن وفّقَه الله لهداية أحدهم على يديه فـ الفضل ليس منه أو له -عليه السلام- ..الفضل لربِنا فهو من هداه –عليه السلام- وهدى به..قال أن أثق في الله وأتوكل عليه وأفوض أمري إليه (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)
أنيب: أي أُقبِل عليه بالطاعة وأرجع إليه بالتوبة..وقيل المُراد أرجع إليه في الآخرة..وقيل أيضاً يُقصد بها الدُعاء..
كان مُسْتَشهداً في تحذيره لهم بأحداث واقعية ..
أعاد تذكيرهم بقوم نوحٍ لمّا أغرقهم الطوفان بكفرهم..
وقال لهم لاتنسوا قوم هود وما حصل لهم..
ولاتنسوا قوم ثمود وما رأوه من العذاب..
وعذاب قوم لوط ليس منكم ببعيد مكاناً او زماناً..
عرض لهم مصائر الأقوام الهالكة بكفرهم من قبلهم لِيتّعِظوا..قال لهم لاتجعلوا عداوتكم لي وكرهكم للرساله يصدّانكم عن الإيمان وتكونوا أكثر عناداً وإعراضاً وإصراراً على الضلال..أنظروا إلى ماحولكم تجدون عذاب الله وقد أصاب الظالمين ..أنظروا إلى آثار العذاب قد تركها الله لتكون لنا عِبرة (وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) .. [ آية 89 : سورة هود]
مَنْطِقه –عيله السلام- وقوة حُجَّته جعلتا من أهل مدين فريقين..فريق آمن (وكانوا الأقليّة الضعيفه),,وفريق كفر وأعرض وأصر على فعله (وكانوا الأغلبية من كبراء القوم)
الأغلبية لم يتركوه -عليه السلام- ومن آمن معه وشأنهم ..لم يكتفوا بضعف من آمن به وقلّتهم وعدمية حيلتهم..بل هددوه وحاولوا ثنِيه عن الحق وتخويفه ..قالوا له لولا أن معك من أهل مدين لطردناك (قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ(
تصرفهم لايّدُل إلا على خوفٍ في ضمائرهم..صوت الحق دوماً مُنْتَصِر ولو بعد حين..ودوماً هو المُنتصِر بإذن الله..قد عرفوا أنّه -عليه السلام- على الحق رغم الإنكار والجحود..
سيدنا شعيب -عليه السلام-استمر في هدوءه ولين أسلوبه,,حاول إيقاظ عقولهم الخامدة وقلوبهم الغافلة ويُبَيِّن خطأهم في تقدير الأمور..قال لهم أيُعقل أن من آمن معي أعز في قلوبكم من الله خالقي وخالقكم؟!أيُعقل تجاهلكم للهُدى والرساله ورميها وراء ظهوركم؟؟..ذكرهم أن الله هو العالم بأفعالهم ليُحَذرهم أنهم مُجَازون عليها.. (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) .. [آية 93 : سورة هود]
لمّا اتضح له أنه لا جدوى منهم ..استمر في ثباته وأحب أن يوَكِّد لهم ثقته بأنه على الحق..قال لهم كما تشاءون
..استمروا في طريقكم وسأستمر في طريقي..وسنرى نهايةً من سيصيبه العذاب المهين،ومن كذب سيعلم كذبه وأنه كان على الباطل..انتظروا هذا اليوم وأنا مُنتَظِرٌ معكم..أنتم تننتظرون العذاب وأنا انتظر الرحمة والنصر من ربي (وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) .. [آية 93 : سورة هود]
كلامه كان بمثابة تهديد لِيُثْبِت لهم عكس اعتقادهم أن وصفوه بالضعف من بينهم..!
على النقيض تماماً ..هو القوي بالحق، وتهديده لهم عن ثقة،قوته مُسْتَمَدّة من قوة الله العزيز الذي يؤيده من فوق سابع سماء..
قابلوا التهديد بالاستهتار والتحدّي ! .. قالوا له لو كنت صادقاً فلتجعل ربك يُنزِل بنا هذا العذاب ! أو لِتُنْزِل علينا قطعة السماء! )فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) .. [آية 187 : سورة الشعراء]
وازدادوا في الفجور والتحدي بالتهديد فقالوا له-عليه السلام- ومن معه :إمّا أن ترجعوا لعبادة آلهتنا وإما أن نطردكم (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا(
الغريب في الموقف أن سيدنا شعيب-عليه السلام- ومن آمن معه أقلية ضعيفة .. والقوم كانوا أكثرية قوية .. ورغم ذلك كانت دعوة سيدنا شعيب باللين والهدوء وجوابهم هم بالقوة والتهديد !
كيف لأحدٍ يُفتّرض أنّه في موقف ضعف وتجده هادءاً واثقاً في دعوته ؟ وكيف لقومٍ يُفْتَرض أنّهم في موقف قوة وتجدهم يتوعدون ويهددون ؟
الفرق الوحيد هو الحق ..طرف الحق يكون واضحاً ..فكان –عليه السلام- ثابتاً..يعلم أن الحق سيتحقق ولو بعد حين..فلا يحتاج لأيّاً من أساليب القوم من التهديد والإيذاء والوعيد..واثقٌ بأنّ معه القوة أو الشوكة التي سيكون لها الغلبة نهاية الأمر..
رفض النبي ومن آمن معه ،رفض منطقي غير قابل للتفكير في التراجع،فكيف نتخلى عن الهدى بعد أن هدانا ربنا ؟كيف نرجع للضلال بعدما لمسنا حلاوة الإيمان؟ (قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا(
و هنا كانت دعوة سيدنا شعيب لـ ربه (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ(وبدأ العقاب !)
وبدلاً من عذابٍ واحدٍ ..رأوا ثلاثة أنواع من العذاب الشديد بكفرهم وسوء عملهم ..فكان أول ما عُوقِبوا به هو نفس العذاب الذي طلبوه..
♦ أرسل الله عليهم الحر الشديد ..لم يحتمله أحد..حتى أن الجو أصبح مختنقاً فاختنقوا وأصبحوا غير قادرين على التنفس جيداً ..فخرجوا من البيوت في سبيل نسمة هواء يتنفسونها..وإذ بهم يجدون غمامة كبيرة في السماء تتجه ناحيتهم ..أظلّتهم..فاستبشروا ! ..تجمعوا جميعهم تحتها ونادى بعضهم بعضاً ليسْتَظِلّوا بظِلّها ورجاءاً لبردها..
فلمّا تجمّعوا تحتها أمطرت عليهم شرار من نار ولهب ! أصابهم فآذاهم وأحرق منهم [وهذا ماسُمّيَ بعذاب يوم الظُّلَّةِ ]
(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) .. [آية 189 : سورة الشعراء]
♦ وبعدها سمعوا صوتاً قوياً جداً من السماء , صوت يخترق القلوب من شدته [ وقد سُمِّيَت بالصيحة] .. (وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) .. [آية 94 : سورة هود]
♦ وكان العذاب الثالث زلزلزلة قوية جداً في الأرض[وقد سماها القرآن بالرجفة]..( (فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [آية 91 : سورة الأعراف]
من بلاغة الوصف القرآني أنه أخبرنا عن أنواع العذاب الذين نزلوا على أهل مدين وفقاً لسياق الآيات
• ففي سورة الشعراء كان طلبهم هو العذاب من السماء , فـ ذُكِر فيها عذاب يوم الظلة
• في سورة هود كان كلامهم لـ سيدنا شعيب به استهزاء بصلاته وبأوامر ربه , فـ ذكر فيها الصيحة كـ نوع من الزجر والصراخ في وجوههم عقاباً لهم على ما نطقوه في حق الرسول الكريم
• في سورة الأعراف كان تهديدهم لسيدنا شعيب أن يطردوه من البلد , حاولوا إرجافه وإخافته هو ومن معه من المؤمنين , فـ ذُكِر العذاب المناسب وهو الرجفة
أما مصير سيدنا شعيب والمؤمنين من معه فـ كان النجاة وغلبة الحق ..تماماً كما تقرر في السنن الكونية الثابتة ..
القدرة الإلهيّة هي القدرة الوحيدة القادرة على أن تنجّي أشخاص بعينهم وتحميهم من عذاب واقع على كل القرية التي هم فيها.. وهذا حدث لـ سيدنا شعيب-عليه السلام- ومن آمن معه.. (وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) .. [سورة هود]
لكن لِما بالأخص"كَمَا بَعِدَتْ ثمود" ؟
قال ابن عباس : ما أهلك الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم صالح وقوم شعيب ، أهلكهم الله بالصيحة ; غير أن قوم صالح أخذتهم الصيحة من تحتهم ، وقوم شعيب أخذتهم الصيحة من فوقهم .
المصادر :
• قصص نبيل العوضي
• قصص عمرو خالد
• قصص طارق السويدان
• قصص ابن كثير
• موقع إسلام ويب
• موقع الملك سعود للمصحف الإلكتروني , تم الإستعانة به لتفسير بعض الايات