بتاريخ 27 صفر 1443 هـ = الموافق 23سبتمبر 2022 م
عناصر الخطبة:
(1) القرآنُ الكريمُ
حثَّنَا على أنْ نكونَ مِن أهلِ الاستجابةِ .
(2) بعضُ أعمالِ
الاستجابةِ في القرآنِ والسنةِ.
(1) القرآنُ
الكريمُ حثَّنَا على أنْ نكونَ مِن أهلِ الاستجابةِ:
لقد كان الأنبياءُ
عليهم السلامُ أشدَّ الناسِ بلاءً، فهم قد تعرضُوا لمحنٍ متعددةٍ في أقربائِهِم،
وأولادِهِم وأزواجِهِم وأنفسِهِم ... إلخ عن سعدِ بنِ أبِي وقاصٍ قال: قلتُ: يا رسولَ
اللهِ أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً؟ «قالَ: الأنبياءُ
ثمَّ الأمثلُ فالأمثلُ يُبتَلى الرجلُ على حسبِ دينهِ فإنْ كان دينُهُ صلبًا اشتدَّ
بلاؤهُ وإنْ كان في دينهِ رقةٌ ابتلاهُ اللهُ على حسبِ دينهِ فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ
حتى يمشِي على الأرضِ وما عليهِ خطيئةٌ» (الترمذي وسننه وحسنه)، وفي ظلِّ هذه
الخطوبِ، واشتدادِ تلك الكروبِ يهرعُون إلى اللهِ عزَّ وجلَّ بالدعاءِ والتذللِ مع
إظهارِهِم لفقرِهِم وحاجتِهِم لهُ عزَّ وجلَّ، قالَ اللهُ حكايةً عنهم: {إِنَّهُمْ
كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا
لَنَا خَاشِعِينَ}، واللهُ تعالَى إذا أحبَّ عبدًا سمعَ مِن مناجاتهِ، حتى سمَّى
العلماءُ "سورةَ الأنبياءِ" بسورةِ الاستجابةِ حيثُ تحدثتْ عن الأنبياءِ
– عليهم السلام - والابتلاءاتِ والمحنِ التي تعرضُوا لها، ومع ذلك كانُوا يدعُون اللهَ
تعالَى عسَى أنْ يفرجَ عنهم، وهي أكثرُ سورةٍ في القرآنِ الكريمِ وردَ فيها
"نونُ العظمةِ"، وقد تكررَ فيهَا قولُهُ تعالَى: "فَاسْتَجَبْنَا"
أكثرَ مِن مرةٍ في سياقاتٍ مختلفةٍ مع أنبياءَ كثرٍ مع سيدِنَا نوحٍ عليهِ السلام:
«وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ
»، ومع سيدِنَا أيوبَ عليه السلام: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ
ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ»، ومع سيدِنِا يونسَ بنِ متّى عليه السلام: «فَاسْتَجَبْنَا
لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ »، ومع
زكرِيَا عليه السلام: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا
لَهُ زَوْجَهُ»، وكأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يخبرُ عبادَهُ أنَّ مقاليدَ الأمورِ
بيدهِ، وتدبيرَ شؤونِ العبادِ تحتَ تصرفهِ فلا يقدرُ على جلبِ النفعِ ولا دفعِ
الضرِّ عنك أيُّها العبدُ إلَّا خالقُكَ ورازقُكَ، وقدرتُهُ سبحانَهُ صالحةٌ
لتغيرَ كلَّ ممكنٍ وتغييرَ كلَّ مستعصٍ عليك أيُّها العبدُ الضعيفُ قالَ تعالَى: «وَإِن
يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّۢ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍۢ
فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ»، فتمسكْ به، وتعلقْ ببابهِ، وأحسنْ الظنَّ
بهِ يقولُ اللهُ تباركَ وتعالَى في الحديثِ القدسِي: "أنا عندَ ظنِّ عبدِي بي،
وأنا معَهُ إذا ذكرنِي، فإنْ ذكرنِي في نفسِه ذكرتُه في نفسِي، وإنْ ذكرنِي في ملأٍ
ذكرتُه في ملأٍ خيرٍ منهم، وإنْ تقرَّبَ إليَّ شبرًا تقرَّبتُ إليهِ ذراعًا، وإنْ تقرَّبَ
إليَّ ذراعًا تقرَّبتُ إليهِ باعًا، وإنْ أتانِي يمشِي أتيتُه هرولةً"
(البخاري) .
إنَّ العبدَ لن
يحرمَ الخيرَ إذا رفعَ أكفَّ الضراعةِ إلى مولاه فليدعُو ربَّهُ عزَّ وجلَّ بقلبٍ حاضرٍ،
وأنْ يكونَ على يقينٍ مِن الإجابةِ فعن أَبِي سَعِيدٍ الخدرِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ
فِيهَا إِثْمٌ ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ
: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ
، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا . قَالُوا : إِذًا نُكْثِرُ
. قَالَ : اللهُ أَكْثَرُ" (أحمد، وسنده حسن)، وقد بوّبَ عليه الإمامُ النوويُّ
في كتابهِ "الأذكار" بقولهِ :"بابُ الدليلِ على أنَّ دعاءَ المسلمِ
يُجابُ بمطلوبهِ أو غيرِه " فالمطلوبُ المعينُ – سواءٌ كان مِن صلاحِ الدينِ أو
الآخرةِ أو صلاحِ الدنيَا – قد لا يتحققُ في نفسهِ، وإنَّما يحققُ اللهُ له بديلَهُ
في الدنيا أو في الآخرةِ، أو يصرفُ عنه في الدنيا مِن السوءِ بقدرِه، يقولُ
الإمامُ ابنُ حجرٍ:" كلُّ داعٍ يستجابُ لهُ ، لكنْ تتنوعُ الإجابةُ، فتارةً تقعُ
بعينِ ما دعَا به، وتارةً بعوضِه". (فتح الباري) .
(2) بعضُ أعمالِ الاستجابةِ
في القرآنِ والسنةِ:
*الإخلاصُ للهِ
في السرِّ والعلانيةِ: أمرَنَا اللهُ عزَّ وجلَّ بالإخلاصِ فقالَ تعالَى: {فَادْعُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}، وجاءتْ
الأحاديثُ الصحيحةُ تأمرُ المسلمَ أنْ يلزمَ الإخلاصَ، ويبتعدَ عن الرياءِ
والنفاقِ، وسوءِ الأخلاقِ؛ إذ هذا أدعَى للاستجابةِ لدعائهِ وأرجَى للعفوِ عن
ذنبهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَالَهُ؟ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا شَيْءَ لَهُ»، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ،
يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا شَيْءَ لَهُ»، ثُمَّ قَالَ:
«إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ
بِهِ وَجْهُهُ» (النسائي)، وها هو سيدُنَا يوسفُ عليه السلام يتضرعُ إلى اللهِ كي
ينجيَهُ مِمّا هو فيهِ مِن كيدِ امرأةِ العزيزِ ومَن معَهَا، فجاءَهُ النصرُ
الإلهيُّ، والتأييدُ الربانيُّ قالَ ربُّنَا: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ
أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَٰهِلِينَ* فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ
عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
يقولُ الإمامُ الشوكاني:
"هذا الأدبُ هو أعظمُ الآدابِ في إجابةِ الدعاءِ؛ لأنَّ الإخلاصَ هو الذي تدورُ
عليهِ دوائرُ الإجابةِ، فمَن دعَا غيرَ مخلصٍ فهو حقيقٌ بأنْ لا يُجابُ إلّا أنْ يتفضلَ
اللهُ عليهِ، واللهُ ذُو الفضلِ العظيمِ" اه (تحفة الذاكرين) .
لقد نجَّا اللهُ
– عزَّ وجلَّ - أصحابَ الغارِ بأنَّهم توسلُوا إليهِ بصالحِ أعمالٍ عملُوهَا خالصةً
لوجهِ اللهِ تعالى فعن أبي هريرةَ قال سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
يقولُ: "انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكُمْ حتَّى أوَوُا المَبِيتَ
إلى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عليهمُ الغَارَ،
فَقالوا: إنَّه لا يُنْجِيكُمْ مِن هذِه الصَّخْرَةِ إلَّا أنْ تَدْعُوا اللَّهَ بصَالِحِ
أعْمَالِكُمْ، فَقالَ رَجُلٌ منهمْ: اللَّهُمَّ كانَ لي أبَوَانِ شَيخَانِ كَبِيرَانِ،
وكُنْتُ لا أَغْبِقُ قَبْلَهُما أهْلًا ولَا مَالًا، فَنَأَى بي في طَلَبِ شَيءٍ يَوْمًا،
فَلَمْ أُرِحْ عليهما حتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لهما غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُما
نَائِمَيْنِ وكَرِهْتُ أنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُما أهْلًا أوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ والقَدَحُ
علَى يَدَيَّ، أنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُما حتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا
غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَفَرِّجْ
عَنَّا ما نَحْنُ فيه مِن هذِه الصَّخْرَةِ. فَانْفَرَجَتْ شيئًا لا يَسْتَطِيعُونَ
الخُرُوجَ. قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وقالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ
لي بنْتُ عَمٍّ، كَانَتْ أحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ، فأرَدْتُهَا عن نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ
مِنِّي حتَّى ألَمَّتْ بهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي، فأعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ
ومِئَةَ دِينَارٍ علَى أنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وبيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ، حتَّى
إذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، قالَتْ: لا أُحِلُّ لكَ أنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إلَّا بحَقِّهِ،
فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وهي أحَبُّ النَّاسِ
إلَيَّ، وتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذي أعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ
ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا ما نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ،
غيرَ أنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ منها. قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه
وسلَّمَ: وقالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فأعْطَيْتُهُمْ
أجْرَهُمْ غيرَ رَجُلٍ واحِدٍ تَرَكَ الَّذي له وذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أجْرَهُ حتَّى
كَثُرَتْ منه الأمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ، أدِّ
إلَيَّ أجْرِي، فَقُلتُ له: كُلُّ ما تَرَى مِن أجْرِكَ مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ
والرَّقِيقِ، فَقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ، لا تَسْتَهْزِئُ بي! فَقُلتُ: إنِّي لا أسْتَهْزِئُ
بكَ، فأخَذَهُ كُلَّهُ، فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ منه شيئًا، اللَّهُمَّ فإنْ
كُنْتُ فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا ما نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ
الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ" (البخاري) .
ويثابُ العبدُ المسلمُ
عن نيتِهِ الخالصةِ لوجهِ اللهِ ولو حالَ القدرُ دونَ أنْ يقعَ هذا العملُ، فعَنْ أَبِي
كَبْشَةَ أَنَّهُ: سَمِعَ رَسُوْلَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّمَا
الدُّنْيَا لأرْبَعَةِ نَفَرٍ، عَبْدٌ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي
فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ
الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقهُ مَالاً فَهُوَ صَادِقُ
النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِّيَتِهِ
فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ» (الترمذي وأحمد).
*المسارعةُ
والرجوعُ إلى اللهِ رغباً ورهباً، قولاً وعملاً: إنَّ الاستجابةَ لأمرِ اللهِ تعالى
ورسولهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم وتحقيقَ الإيمانِ قولًا وسلوكًا يجعلُ العبدَ مِن
أهلِ الاستجابةِ قالَ ربُّنَا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي
لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، فليحرصْ العبدُ أنْ يتقربَ إلى اللهِ تعالى بالنوافلِ بعدَ
الفرائضِ، ويكثرَ مِن الصدقاتِ، ومساعدةِ المحتاجين ... إلخ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: "قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ
قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيَّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَربِ، وَمَا تَقَرَّبَ إَلِىَّ
عَبْدِي بِشْيءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي
يَتَقرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتهُ، كُنْتُ
سَمّعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي
يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ،
وَلَئِنْ اسْتَعَاذَ بي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدّدتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلهُ
تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسْاءَتَهُ»
(البخاري) .
*تمجيدُ اللهِ
عزَّ وجلَّ بِمِا هو أهلُهُ، والصلاةُ على سيدِنَا رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه
وسلم: إنَّ الناظرَ في القرآنِ الكريمِ يجدُ أنَّ الأنبياءَ والصالحين في خطابِهِم
مع ربِّهِم عزَّ وجلَّ قد راعُوا الأدبَ، وحسنَ الثناءِ عليهِ، فهذا أيوبُ عليهِ
السلامُ ينسبُ حصولَ الضرِّ إلى نفسهِ فيقولُ: "وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ
أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" مع أنَّ الكلَّ
مخلوقٌ للهِ تعالى، وهذا إبراهيمُ عليه السلامُ ينسبُ المرضَ إلى نفسهِ فيقولُ:
"وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ"، وهذا سيدُنَا يونسُ عليه السلامُ
عن سعدِ بنِ أبي وقاصٍ قال: ذكرَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلم دعوةَ ذي النونِ،
قال: وجاءَ أعرابيٌّ فشَغَلَهُ، فاتبعتُهُ، فالتفتَ إليَّ فقال: أبا إسحاق، قلت: نعم،
قال: فمَهْ؟، قلتُ: ذكرتَ دعوةَ ذي النون، ثم جاءَ أعرابيٌّ فشغلَكَ، قال: نعم، دعوةُ
ذي النونِ إذْ نادَى في بطنِ الحوتِ:" لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي
كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ"، فإنّهُ لم يدعُ بها أحدٌ إلّا استُجيبَ لهُ"
(البزاز)، وهذا نبيُّنَا صلَّى اللهُ عليه وسلم يُعلّمُ أحدَ صحابتهِ كيفَ يدعُو
اللهَ حتى يكونَ مِن أهلِ الاستجابةِ فعن فضالةَ بنِ عبيدِ اللَّهِ قال: سَمِعَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يُمَجِّدِ
اللَّهَ تَعَالَى، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «عَجِلَ هَذَا»، ثُمَّ
دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: - أَوْ لِغَيْرِهِ - : «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَبْدَأْ
بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ» (أبو داود
والترمذي وحسنه)، فليحرصْ المسلمُ أنْ يتخيرَ مِن القرآنِ والسنةِ ما يعينُهُ على
ذلك، وقد ذكرَ أهلُ العلمِ أنَّ العبدَ إذا أرادَ أنْ يكونَ مِن أهلِ الاستجابةِ
فليبدأْ دعاءَهُ بالصلاةِ على النبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلم ـ وليختمْ بالصلاةِ
على النبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلم فعن أبي سليمانَ الدارانِي قال: "مَن أرادَ
أنْ يسألَ اللهَ حاجتَهُ فليبدأْ بالصلاةِ على النبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلم ـ ويسألْ
حاجتَهُ وليختمْ بالصلاةِ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم فإنَّ اللهَ يتقبلُ الصلاةَ
وهو أكرمُ مِن أنْ يردَّ ما بينهُمَا" (القول البديع للسخاوي) .
*طيبُ المأكلِ
والمشربِ، وتحرِّي الحلالَ: إنَّ أكلَ الحرامِ بكافةِ أشكالهِ وصورهِ قد يكونُ
مظنةَ عدمِ استجابةِ الدعاءِ فعن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه
وسلم: "... ثم ذكرَ الرجلَ يطيلُ السفرَ أشعثَ أغبرَ يمدُّ يديهِ إلى السماءِ:
يا ربِّ يا ربِّ، ومطعمُهُ حرامٌ ومشربُهُ حرامٌ وملبسُهُ حرامٌ وغذِيَ بالحرامِ فأنَّى
يُستجابُ لذلك" (مسلم)، وهذا ما وجَّهَ إليهِ رسولُنَا – صلَّى اللهُ عليه
وسلم – صحابَتَهُ وأمرَهُم بهِ، وحرصَ على غرسِهِ في نفوسِهِم فعن ابنِ عباسٍ:
قال: تُلِيَتْ هذهِ الآيةُ عِندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا}، فقام سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ,
فقال: يا رسولَ اللهِ, ادعُ اللهَ أنْ يجعَلَني مُستَجابَ الدَّعوةِ، فقال النبيُّ
صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "يا سعدُ، أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُستَجابَ الدَّعوةِ،
والَّذي نفْسُ مُحمَّدٍ بيدِهِ, إنَّ العبدَ لَيَقذِفُ اللُّقمةَ الحرامَ في جَوفِهِ
ما يُتقبَّلُ منه عملٌ أربعينَ يومًا, وأيُّما عبدٍ نَبَتَ لحمُهُ مِن سُحْتٍ, فالنَّارُ
أَوْلى به" (الأوسط للطبراني) .
ذكرَ ابنُ رجبٍ
في معنى هذا الحديثِ: "إنَّ اللهَ لا يقبلُ مِن الأعمالِ إلّا ما كان طيبًا طاهرًا
مِن المفسداتِ كلِّهَا: كالرياءِ، والعجبِ، ولا مِن الأموالِ إلّا ما كان طيبًا حلالاً،
فإنَّ الطيبَ تُوصفُ به الأعمالُ، والأقوالُ، والمرادُ بهذا أنَّ الرسلَ وأممَهُم مأمورون
بالأكلِ مِن الطيباتِ التي هي الحلالُ، وبالعملِ الصالحِ، فمَا دامَ الأكلُ حلالًا،
فالعملُ صالحٌ مقبولٌ، فإذا كان الأكلُ غيرَ حلالٍ، فكيف يكونُ العملُ مقبولًا؟ وما
ذكره بعد ذَلِكَ مِن الدعاءِ، وأنَّه كيف يتقبلُ مع الحرامِ، فهوَ مثالٌ لاستبعادِ
قَبُولِ الأعمالِ مع التغذيةِ بالحرامِ" (جامع العلوم والحكم) .
ألَا فلنحرصْ
على تحرِّي الحلالَ مطمعًا وملبسًا ومنكحًا ومركبًا وسكنًا ... إلخ؛ لأنَّ هذا لهُ
أثرهُ الإيجابِيُّ على حياةِ الإنسانِ واستقرارِهِ، واستمرارِ نفعهِ، وبركةِ
عمرهِ، وسلامةِ جسدهِ، وقد كان جيلُ الصحابةِ رضي اللهُ عنهم أحرصَ الناسِ على
أكلِ الحلالِ حتى كانُوا يتركونَ ما فيهِ شبهةٌ اتقاءَ الوقوعِ في أكلِ الحرامِ
فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ،
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ
أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ
الْكِهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا
الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ. فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي
بَطْنِهِ» (البخاري).
*حضورُ القلبِ
والخروجُ عن حدِّ الغفلةِ: إنَّ استيلاءَ الغفلةِ على القلبِ مع كثرةِ العملِ قد
تحجبُ العبدَ عن أنْ يكونَ مِن أهلِ الاستجابةِ قالَ رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه
وسلم-: «ادْعُوا الله وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ
لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ»، (الترمذي).
*الأخذُ
بالأسبابِ والتوكلُ على مسببِ الأسبابِ: على العبدِ أنْ يأخذَ بالأسبابِ، ويتوكلَ
على اللهِ تعالَى، فلا يصحُّ عقلًا أنْ نتحدثَ عن أهلِ الاستجابةِ ونحن لسنَا مِن
أهلِهَا كأنْ يطلبَ الإنسانُ النجاحَ مِن غيرِ طلبٍ لهُ، أو الرزقَ مِن غيرِ عملٍ،
أو النصرَ مِن غيرِ إعدادِ العدةٍ، أو الشفاءَ مِن غيرِ علاجٍ، "مرَّ الإمامُ
عامرٌ الشعبِيُّ بإبِلٍ قد فشَا فيها الجَرَبُ، فقالَ لصاحبِهَا: أما تداوي إبلَك؟
فقال: إنَّ لنَا عجوزًا نتَّكِلُ على دعائِهَا، فقال: "اجعلْ مع دعَائِهَا شيئًا
مِنَ القَطِرَانِ". والقطرانُ: يداوي جَرَبَ الإبلِ، وفقهُ هذا الأمرِ يعينُ
المسلمَ على كثرةِ العملِ، وعدمِ الخنوعِ والخضوعِ لظروفهِ؛ إذ السماءُ لا تمطرُ
ذهبًا ولا فضةً.
*تحرِّي المواطنَ
التي يستجيبُ اللهُ فيها الدعاءَ: ينبغي للعبدِ إذا أرادَ أنْ يكونَ مِن أهلِ
الاستجابةِ أنْ يتخيرَ الأوقاتِ الفاضلةَ التي هي مظنةُ قبولِ الدعاءِ كالسجودِ وبينَ
الآذانِ والإقامةِ فعن أنسٍ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم: "لا
يُرَدُّ الدعاءُ بين الأذانِ والإقامةِ" (النسائي، وابن حبان)، وأثناءِ السجودِ
فعن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلَّى اللهُ عليه وسلم- قال: «أقْرَبُ ما يَكون العبد
مِنْ رَبِّهِ وهو ساجد، فَأَكْثروا الدُّعاء» (مسلم)، والثلثِ الأخيرِ مِن الليلِ،
وعندِ إفطارِ الصائمِ، وعندَ نزولِ الغيثِ مِن السماءِ، وقد أخبرَنَا اللهُ - تعالى- عن استجابتهِ دعاءَ زكريَّا عليه
السلامُ وهو قائمٌ للصلاةِ فقالَ: "هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ
رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ*فَنَادَتْهُ
الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُكَ
بِيَحْيَىٰ".
نسألُ اللهَ أنْ
يرزقنَا حسنَ العملِ، وفضلَ القبولِ، إنَّه أكرمُ مسؤولٍ، وأعظمُ مأمولٍ، وأنْ يجعلَ
بلدنَا مِصْرَ سخاءً رخاءً، أمنًا أمانًا، سلمًا سلامًا وسائرَ بلادِ العالمين، وأنْ
يوفقً ولاةَ أُمورِنَا لما فيهِ نفعُ البلادِ والعبادِ .
كتبه: د / محروس
رمضان حفظي عبد العال عضو هيئة التدريس
بجامعة الأزهر